والآن نحن نغادر الحوش الخارجي ونلتف حول المضيفة، حتى نصل إلى الحوش الداخلي أو كما يطلق عليه بشكاري. أما الممر الثاني الذي يقود إلى الداخل، فهو كسابقه معتم ومغلق من جوانبه جميعها. وإذا استدرنا يمينًا في نهاية الممر، فسنصل إلى الإسطبلات؛ وإذا اتخذنا اليسار، فسنصل إلى حوش كبير ضخم المساحة مثل الأول.
والجوانب الأربعة من الفناء محاطة بمبانٍ تخدم وظائف مختلفة. وجانبا المبنى الرئيس محاطان بأجنحة كبيرة تشكل مساحات معيشة منفصلة. والبلاط مزخرف بالألوان الأزرق والأخضر والأبيض جنبًا إلى جنب مع الألواح الخشبية المنحوتة التي تفوح منها رائحة زهرية تزين الشرفة الأمامية، وتدعمها أربعة أعمدة خشبية في الوسط، وعمودان على كل جانب.
وفي منتصف الشرفة ذات الأعمدة يجلس رجل على منصة مرتفعة في مواجهة الباب، يرتدي سترة مبطنة بالمخمل الأسود أمام شجرة صندل مغطاة بمفارش جدارية من الستان متعددة الألوان.
لن نقدم هذا الرجل للقراء مرة أخرى فهم يعرفونه جيدًا. إنه ميرزا كريم قوتيدار. على جانبي الصندل، استلقت امرأتان. إحداهما ترتدي فستانًا طويلًا من أطلس خان فوقه رداء حريري بلا أكمام. وفوقه يتدلى وشاح حريري أبيض فضفاض. تبلغ من العمر خمسة وثلاثين عامًا تقريبًا، إنها جميلة ونحيفة. لها وجه يجسد اللطف والاحترام والتواضع في علاقتها بزوجها، إنها بلا ريب السيدة "أفتاب آيم" زوجة قوتيدار.
أما الثانية فهي سيدة عجوز تبلغ من العمر حوالي سبعين عامًا، وتدعى عائشة هانم، وهي والدة الأولى. وبالقرب من الموقد الحجري عند الزاوية تجلس امرأة مشغولة بغلي الماء لإعداد الشاي. إنها أكثر خشونة من البقية وتبلغ من العمر خمسة وأربعين عامًا تقريبًا. وتعمل خادمة للأسرة وتدعى "تويبكة".
ولنتوقف مؤقتًا عن التعريف بهؤلاء السيدات. دخلنا الغرفة من خلال باب صغير يعمل أيضًا نافذةً على يسار الشرفة الأرضية. في وسط هذه الغرفة نرى فتاة تجلس على بطانيات من الحرير، في حين كانت تتكاسل على وسائد من الريش، تبدو مشتتة. تتكاسل بشدة وهي تفتح عينيها؛ ربما بسبب البرد الشديد، أو ربما لأسباب لم تتكشف لنا.
أما ضفائر شعرها داكنة اللون، فتبدو في وضع فوضوي فوق الوسادة، وعيناها السوداء المتوهجة تحت رموشها الكثيفة المجعدة، تبدو وكأنها قد وقعت على شيء ما، لذا فهي تنظر محدقة في اتجاه معين؛ حاجباها الأسودان رقيقان مقوسان، يرتعدان، ووجهها مثل البدر، أبيض لؤلؤي، يحمر خجلًا بعض الشيء، كما لو كانت مرتبكة من وجود شخص ما. في هذه اللحظة، أبعدت بيديها الرقيقة طرف الغطاء، وتلمست قسمات وجهها الجميل، وتلك الشامة السوداء الخلابة التي منحها الله إياها على الجانب الأيسر من أنفها البديع، وجلست بعد أن رفعت رأسها من على الوسادة. ويبرز ثديها الصغير الفاتن متوهجًا من فستانها المصنوع من الحرير الأصفر. وبعد أن جلست، هزت رأسها مبتسمة في براءة وارتعد جسدها بالكامل ما دفع خصلات شعرها تتسرب على وجهها فتغطيه، فما إن تراها حتى تذوب حنانًا عليها وشفقة بها وتتألم من أجلها.. هي.. ذلك الملاك المتجسد في شكل فتاة صغيرة لم تكن سوى كوموش هانم >(>17>) ابنة قوتيدار.
ولعدة أيام، كانت كوموش هانم تشكو من نزلة برد وصداع واضطراب في الرؤية؛ لذا لم تشأ والدتها أن توقظها اليوم من سباتها العميق حتى من أجل أن تصلي، ولسان حالها يقول "فلتأخذ حقها في النوم حتى تستريح".
لكن كوموش نهضت وارتدت ملابسها وغادرت غرفتها. غسلت وجهها بالماء الدافئ الذي أعدته تويبكة، وعادت إلى غرفتها، فجففت وجهها، وخرجت إلى الشرفة وجلست بالقرب من والدها بعد أن ألقت التحية على الحضور في الإيوان>(>18>).
ألقى قوتيدار نظرة فاحصة على ابنته وسألها: "هل أصبحت أفضل يا ابنتي؟"
"لا، يا أبي العزيز، ما زلت أعاني من بعض الصداع." وضع قوتيدار يده على جبين ابنته ثم قال: "أوه، كوموش، ما زلت تعانين من الحمى. أنت بحاجة إلى الاعتناء بنفسك، ابنتي، دثري نفسك في لحاف سميك. حتى إذا تعرقت، فسوف تشعرين بتحسن يا عزيزتي". ثم طلب من تويبكة أن تصب الشاي بالحليب الدافئ إلى ابنته كوموش.
أيدت أفتاب ملاحظة زوجها قائلة: "ما زالت تعاني من الحمى. وجهها محمر ومنتفخ". قطعت عائشة بصوت ضعيف واهن حديثهما فجأة قائلة: "خاصة الليلة الماضية، لا يمكنك أن تتخيل كم كدت أموت خوفًا عليها. كانت تهذي بأشياء غريبة من فرط الحمى."