يقال: "إن من رجاحة العقل أن يعود المرء إلى الماضي ليتخذه نبراسًا للمستقبل". وانطلاقًا من هذا، قررت أن أكرس موضوع الرواية للماضي؛ لتلك الأيام التي خلت منذ زمن ليس ببعيد، ولتلك الأيام التي هي أسوأ وأحلك أيام تاريخ بلادنا؛ "عصر الخانات الأخيرة".
عبد الله قادري (جولقون باي)، 1926
الفصل الأول
1. أتابك بن يوسف بك حَاجِّي
كان اليوم السابع عشر من أيام شهر الدلو>(>2>) الباردة من العام 1264 للهجرة، وقد غربت الشمس وترددت في الأرجاء أصوات الآذان لصلاة المغرب.
كان خان>(>3>) مدينة مرغلان الشهير، بأبوابه المطلة على الجهة الجنوبية الشرقية يمتلئ بالتجار القادمين من طشقند، وسمرقند، وبخارى. وكانت غرفه جميعها باستثناء واحدة أو اثنتين تزدحم بالمسافرين، الذين كانوا يأوون إليه بعد قضاء النهار كله في مباشرة أعمالهم. وكان كثير منهم منشغل بإعداد طعام العشاء، وهكذا يصبح الخان الذي كان ساكنًا في ساعات النهار مفعمًا بالحركة والنشاط، والأحاديث الصاخبة التي لا تنقطع، وأصوات القهقهة العالية التي تحدث ضجيجًا شديدًا يفوق كل تصور، حتى إنه ليبدو أن سقف المبنى يكاد يطير في السماء بفعل هذه الأصوات.
في زاوية بعيدة في الفناء الداخلي للخان كانت هناك غرفة منفصلة تمتاز عن الغرف الأخرى بأثاثها الأنيق وزخارفها البديعة؛ فبينما كانت أرضيات الغرف الأخرى تغطى ببسط من الصوف الخشن، كانت أرضية هذه الغرفة مغطاة بسجاجيد حمراء زاهية اللون. وكانت الغرف الأخرى مزودة بمراتب من القطن الخشن، في حين كانت هذه الغرفة تزدان بألحفة من الحرير و مرتبة الأدرس >(>4>) . وإذا كانت الأماكن الأخرى تفوح منها رائحة السخام المنبعثة من المصابيح بفتيلاتها المغموسة في الزيت، فإن هذه الغرفة تتلألأ فيها أضواء الشموع. وبينما كان نزلاء الغرف الأخرى يبدون تافهين غير عابئين بشيء، فقد كان ساكن هذه الغرفة يتصرف على نحو مختلف.
بطبع هادئ متحفظ، وجسد ممشوق، ووجه أبيض جميل، وعينين سوداوين يتناسب لونهما مع حاجبيه الداكنين، وشارب خفيف ناعم بدأ لتوه يخط في وجهه، بدت هيئة ذلك الشاب ساكن الغرفة. بعبارة أخرى، فإن من بين غرف الخان كلها ونزلائه جميعًا كانت هذه الغرفة وساكنها يثيران اهتمامًا خاصًا. كان هذا الشاب المستغرق في تأملاته وأفكاره دائمًا يدعى أتابك>5، وكان ابن أحد وجهاء طشقند المرموقين، وهو يوسف بك حاجي.
دخل رجلان إلى الفناء من البوابة الرئيسة للخان وتوجه أحدهما إلى بعض الأشخاص عند البوابة وسألهم: هل نزل هنا شخص يدعى أتابك؟
فوجهوهما إلى الغرفة التي وصفناها منذ قليل، فسار الزائران نحوها. كان أحدهما يدعى رحمت، وهو شاب متوسط القامة، ذو وجه دائري ولحية صغيرة خفيفة، ويبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا تقريبًا، ابن ضياء شاهيجي أحد أثرياء مدينة مرغلان. أما الآخر، فكان يبلغ من العمر خمسة وثلاثين عامًا تقريبًا، وكان طويلًا ونحيفًا، ذا بشرة داكنة اللون، ووجه يحمل آثار إصابة قديمة بالجدري، وعينين داكنتين ولحية كثيفة شعثاء. وبالرغم من أن هذا الشاب على قدر كبير من الثراء، فإن شهرته لم تكن تعود إلى ثرائه، بل كان يشتهر بلقب "حامد زير النساء"، الذي صار جزءًا لا يتجزأ من اسمه، ولو أن أحدًا ذكره باسمه وحده مجردًا من هذه الصفة لما فهم الناس عن أي حامد يدور الحديث. لم يكن حامد على سابق معرفة بأتابك، لكن صلته برحمت كانت صلة قرابة مباشرة، فهو خاله وصهر أبيه ضياء شاهيجي.
عندما دخل الرجلان الغرفة استقبلهما أتابك باحترام وإجلال كما ينبغي لمثليهما.
بدأ رحمت حديثه قائلًا:
– نعتذر منك أيها الأخ العزيز، فقد أزعجناك بزيارتنا هذه في ساعة غير مناسبة.
فرد عليهما أتابك بلطف كبير وهو يدعوهما إلى الجلوس في صدر المجلس:
– أبدًا، ليس هناك أي إزعاج، بل على العكس لقد أسعدتماني حقًا بتشريفكما لي، فأنا لأول مرة في مدينتكم ولا أعرف فيها أحدًا، وقد سئمت هذه الوحدة والعزلة التي اضطرني إليها عدم معرفتي بالمدينة.
في تلك اللحظة دخل الحجرة شخص آخر وألقى التحية عليهم. كان شيخًا كبيرًا يبلغ من العمر ستين عامًا تقريبًا ويدعى حسن علي، له وجه طويل، وجبهة مستديرة، وعينان صفراوان مستديرتان، ولحية طويلة بيضاء. وبالرغم من بياض لحيته، لم تكن علامات الشيخوخة ملحوظة بشكل خاص على هيئته أو في بشرته.
أجلس أتابك ضيوفه حول طاولة التدفئة